إن الانسان مخلوق غريب الأطوار، معقد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيته وفي عقله، بل في شخصية كل فرد من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى: فمن جهة قد جبل على العواطف والغرائز من حب النفس والهوى والأثرة وإطاعة الشهوات ، وفطر على حب التغلب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه ، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى: (إن الانسان لفي خسر) و (إن الانسان ليطغى إن رآه استغنى) و (إن النفس لأمارة بالسوء) إلى غير ذلك من الآيات المصرحة والمشيرة إلى ما جبلت عليه النفس الانسانية من العواطف والشهوات .
ومن الجهة الثانية، خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميرا وازعا يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.
ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعرا بين العاطفة والعقل، فمن يتغلب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاما والراشدين في إنسانيتهم والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة والمتردين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.
وأشد هذين المتخاصمين مراسا على النفس هي العاطفة وجنودها فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين يفي الضلالة ومبتعدين عن الهداية بإطاعة الشهوات وتلبية نداء العواطف (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) على أن الانسان لقصوره وعدم إطاعة على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضره وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه، لا فيما يتعلق بخاصة نفسه، ولا فيما يتعلق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه ، بل لا يزال جاهلا بنفسه ويزيد جهلا أو إدراكا لجهله بنفسه ، كلما تقدم العلم عنده بالأشياء الطبيعية والكائنات المادية .
وعلى هذا فالإنسان في أشد الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب والنهج الواضح إلى الرشاد واتباع الهدى، لتقوى بذلك جنود العقل حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللدود اللجوج عندما يهيئ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.
وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه - وكثيرا ما تفعل - فتزين له أعماله وتحسن لنفسه انحرافاتها، إذ تريه ما هو حسن قبيحا أو ما هو قبيح حسنا، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميز له كل ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار. وكل واحد منا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري إلا من عصمه الله.
ولأجل هذا يعسر على الانسان المتمدن المثقف فضلا عن الوحشي الجاهل أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضره في دنياه وآخرته فيما يتعلق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممن هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.
فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفا بهم (رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وينذرهم عما فيه فسادهم ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.
إنما كان اللطف من الله تعالى واجبا، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لا بد أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه.
وليس معنى الوجوب هنا أن أحدا يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنه واجب الوجود "أي اللزوم واستحالة الانفكاك".