يتشرف موقع مؤسسة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، بنشر النص الكامل لكلمة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، بجموع المبلّغين، على أعتاب حلول شهر المحرّم الحرام 1444 للهجرة، في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، مساء يوم الخميس 28 ذي الحجّة الحرام 1443 هـ الموافق 28/7/2022م.
بسم الله الرحمن الرحيم
أرفع التعازي للمقام الشامخ والرفيع والعظيم، للإمامة الكبرى والولاية العظمى، مولانا الإمام المهدي الموعود عجّل الله تعالى في فرجه الشريف وصلوات الله وسلامه عليه، بمناسبة حلول شهري الشعائر الحسينية المقدّسة، محرّم الحرام وصفر الأحزان، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يعجّل في ظهور المنتقم لدم الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولدماء كافّة المظلومين في التاريخ، ولنجاة المؤمنين والمؤمنات، بالخصوص والعموم، ونجاة كل الناس في العالم، من المشاكل المختلفة التي ابتلوا بها.
رواية الخلود
يوجد رواية في كتاب (الكامل في الزيارات) الشريف (الباب 88 ح1) مروية عن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله، وهي رواية مفصّلة، أكتفي بذكر سطرين منها، ما يخصّ عاشوراء، وما تلى وتبع عاشوراء وما سيتبعها، إيجاباً وسلباً.
الرواية منقولة عن السيّدة زينب سلام الله عليها وعن مولانا الإمام زين العابدين صلوات الله عليه، عن أمّ أيمن عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، في زمن استشهاد مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، حيث إنّ السيّدة زينب سلام الله عليها قالت لأبيها بأنّها تريد استماع الرواية التي سمعتها من أمّ أيمن، فقال لها الإمام علي صلوات الله عليه ـ ما مضمونه ـ الحديث كما حدثتك أمّ أيمن. ومن الرواية المشار إليه، انّه في يوم الحادي عشر من شهر المحرّم الحرام، عندما مرّوا بأهل البيت صلوات الله عليهم على الأجساد الطاهرة في كربلاء، ذكرت السيّدة زينب سلام الله عليها الرواية لمولانا الإمام السجّاد صلوات الله عليه الذي هو يعلم بها من قبل. وأذكر مقطعاً من الرواية الشريفة، الذي أريد أن أخصّص الحديث عنه، وهو: قال صلى الله عليه وآله: (وينصبون لهذا الطفّ علماً، لا يُدرس أثره ولا يُعفى رسمه، على كرور الليالي والأيّام). فالرواية هي عن رئيس البلغاء وسيّد الفصحاء صلى الله عليه وآله، ولكل كلمة منها معنى وشأن، وهذا ما يعرفه أهل الاختصاص في اللغة العربية والفصاحة والبلاغة.
معاني الرواية
معنى الرواية انّه بعد واقعة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه، وإلى يوم القيامة، ينصبون لهذا الطف علماً، أي بعض الناس. ولم يقل في هذا الطف، أي لجزء منه، بل قال لهذا الطف. واللام، كما في كتب اللغة، ومنها المغني، انّها في اللغة العربية تستعمل في اثنين وعشرين موطناً، وكلها مجازية، أي بمعنى (في)، وبمعاني أخرى أيضاً. ولكن المعنى الحقيقي للام بالرواية ليس (في). فلا يعني ينصبون لهذا الطف أنّه في هذا الطف أي في كربلاء، بل يعني بعد استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه ينصبون علماً في كل الدنيا، فحذف المتعلّق له ظهور للعموم. وكذلك لم يعيّن صلى الله عليه وآله وقتاً أو زماناً، بل قال ينصبون علماً، أي علامة، للإمام الحسين صلوات الله عليه ولشعائره المقدّسة، في كل مكان بالدنيا. فحتى للجبل يقال عَلَم، ويعني علامة، حيث يمكن رؤية الجبل من بعيد. فالله تعالى، اختار عدّة من الناس، لكي يجعلوا علامة لكربلاء، وهي علامة لا انتهاء لها، ولا تُعفى أو تضمحل، ولا تزول، فهي كالإمام الحسين صلوات الله عليه، الذي استشهد لكي يبقى، وهكذا شعائره المقدّسة، باقية وخالدة، مادامت الدنيا والآخرة، وهو قوله صلى الله عليه وآله (لا يُدرس أثره) يعني لا يزول، و(لا يُعفى رسمه) أي لا يطمّه التراب ولا يفنى. و(على كرور الليالي والأيّام) أي يعني لا يُعلم لكم وكم سنة، هل هو لمئة سنة، أم لألف سنة، أم لعشرة آلاف سنة؟ فلم يعيّن وقتاً وزمناً لها، بل هي باقية مادامت الدنيا. وأما اللام في كلمة (ليجتهدنّ) فهي لام القسم، أي عوضاً عن كلمة (والله)، وجاءت للاختزال والاختصار. وأما (الجهد) فيعني أن يصرف المرء كل قواه وكل قدراته، من مال وحكومة ورئاسة وغيرها. والنون هي نون التوكيد الثقيلة.
حقيقة المعرقلين للشعائر الحسينية
إذا بحثنا عن كلمة (ليجتهدنّ) في كل روايات المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم التي هي بمئات الآلاف، فلم نجدها إلاّ في مورد القضية الحسينية فحسب. فيوجد لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله الكثير من الروايات والأحاديث الشريفة، ولكن، ولعله، لم يذكر كلمة (ليجتهدنّ) إلاّ بالنسبة لقضية الإمام الحسين صلوات الله عليه. فيبيّن النبي الكريم صلى الله عليه وآله في قوله الآنف الذكر، أنّه بعد استشهاد مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه، يظهر فئة من الناس يسعون إلى القضاء على الشعائر الحسينية المقدّسة، بعرقلتها وإثارة الشبهات حولها والتشكيك بها، وإلحاق الأذى بالمقيمين للشعائر الحسينية، وسجنهم وإعدامهم وتعذيبهم.
إنّ الذين يقفون بوجه القضية الحسينية المقدّسة، هم ليسوا الكفّار، بل الذين يسمّون أنفسهم بمسلمين، والنواصب أو أتباعهم، فهم على نهج الذين قتلوا الإمام الحسين صلوات الله عليه. فلم يقتل الإمام الحسين صلوات الله عليه اليهود أو المسيحيون أو الزرادشتية، بل قتله الذين كانوا يتظاهرون بالصلاة والصيام والحجّ. فالمقصود من قول رسول الله صلى الله عليه وآله (ليجتهدنّ) ـ وهو قسم ـ هم قادة الذين يقفون بوجه القضية الحسينية المقدّسة وأئمتهم ورؤسائهم، مع إنّهم مسلمين ويصلّون، لكنهم يعرقلون القضية الحسينية المقدّسة، فسمّاهم النبي الكريم صلى الله عليه وآله بـ(أئمة الكفر) أي رؤسائهم ومن بيدهم مقدّرات البلاد، ولم يقصد الكفّار أو بلاد الكفر.
نتيجة عكسية
أما القسم الثاني فهم (وأشياع الضلالة) أي اتباع الضلالة. فأئمة الكفر وأتباع الضلالة يعرقلون الشعائر الحسينية المقدّسة، ويحاولون محو وطمس شهر محرّم وصفر وكل ذكر للإمام الحسين صلوات الله عليه، فالطمس يعني الدفن، فالشيء الذين يوضع تحت التراب يختفي ولا يبقى له أي أثر. وقد صرفوا الأموال الطائلة من بعد استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه وإلى اليوم لكي يعطّلوا الشعائر الحسينية المقدّسة، ولكن وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله (فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً)، ويعني انّ مساعيهم ومحاولاتهم في عرقلة الشعائر الحسينية المقدّسة صارت سبباً لازديادها واتّساعها كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله (إلاّ علوّاً). فكما عاصرته أنا شخصياً وكذلك أنتم وبالأخص الشباب، ورأيت ورأيتم، أنّ الشعائر الحسينية المقدّسة تزداد سنوياً في العالم ولن تتوقّف ولا تقلّ، وهكذا ستكون.
نمو شعيرة صباح عاشوراء
أنقل لكم ما قد ذكرته مسبقاً، ويتذكّره كبار السنّ أيضاً، وهو أنّه في الفترة من سنة 1370 إلى سنة 1380 للهجرة، كانت مواكب شعيرة صباح عاشوراء في مدينة كربلاء المقدّسة، لم تتجاوز السبعة، وأتذكّر اسماء تلك المواكب، ولم يتجاوز عدد المشاركين فيها الألف، فكان كل موكب يتكوّن إما من خمسين معزّياً أو سبعين أو أقل أو أكثر، وكانت هذه الشعيرة تبدأ من بعد أداء صلاة الصبح، وتنتهي مع طلوع الشمس في المخيّم الحسيني الشريف. فبدأ بعضهم ممن يصلّي ويصوم ويحجّ، بالتشكيك بشعيرة صباح عاشوراء، وصاروا يقولون هذا حرام وذاك حلال، وهذا يجب أن يكون بهذا الشكل، وذاك فيه الضرر، وكانوا يكذبون أيضاً، وكان بعضهم يقول لا ضرر فيه أيضاً. وهذه التشكيكات بدأت من سنة 1380 للهجرة واستمرّت لمدّة عقد من الزمن أي لسنة 1390 للهجرة، وبعدها خرجت من مدينة كربلاء المقدّسة. وفي ذلك العقد الزمني بدأت مواكب شعيرة صباح عاشوراء بالازدياد، أي تأسّست مواكب جديدة، فصارت ثمانية مواكب وتسعة وعشرة، وهكذا إلى عشرين موكب، وكذلك ازداد عدد المشاركين فيها، فوصل عدد المواكب سنة 1390 إلى ثلاثة وثلاثين موكب. وفي ذلك الوقت، أصدروا ونشروا الكثير من النشرات ضدّ شعيرة صباح عاشوراء، وتكلّموا عليها، وخطبوا وطبعوا الكتب، وقد سمعت أحد خطبائهم، ولم يك على علم بالمسائل الشرعية، سمعته يكذب ويقول بخلاف المشهور بين الفقهاء، قديماً وحديثاً. وأما اليوم انظروا كم صار عدد مواكب شعيرة صباح عاشوراء في كربلاء؟ ولا أدري هل لأصحاب الإحصائيات عدد ورقم معيّن لعدد تلك المواكب؟ وهكذا الأمر بالنسبة لباقي أنواع العزاء الحسيني، والمجالس الحسينية، وللإصدارات الحسينية وللقنوات الفضائية وغيرها، فهي لكثرتها لم أجد من قام بإحصائها، وهذا هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (فلا يزداد إلاّ علوّاً).
كثرة الشعائر
كم كان مجموع الشعائر الحسينية المقدّسة في السنة الماضية وفي السنة الجارية؟ بأنواعها الكبيرة والصغيرة؟ فقد بيّن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ بعضهم سينصبون علماً للشعائر الحسينية المقدّسة، وبعض سيجدّون ويجتهدون للقضاء عليها. وهذه من الخصائص الحسينية، وليست من خصائص النبي الكريم صلى الله عليه وآله ولا من خصائص السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها. فلم أجد مثلها لمولانا الإمام علي صلوات الله عليه ولا للإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، مع انّ المعصومين الأربعة صلوات الله عليهم المشار إليهم هم أفضل من الإمام الحسين صلوات الله عليه، بلا أدنى شكّ وريب، وهذا ما بيّنه الإمام الحسين صلوات الله عليه بنفسه في يوم عاشوراء، وقال: (جدّي خير منّي، وأبي خير منّي، وأمّي خير منّي، وأخي الحسن خير منّي). وهكذا بالنسبة لباقي المعصومين صلوات الله عليهم من بعد الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه. فأين تجد مثله في التاريخ؟ فالقول المذكور هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله، بدقّة مضامينه التي ذكرت بعضها. فأصحاب الاختصاص في البلاغة يعرفون ذلك بشكل أوسع وأكبر، بأنّها من خصائص الإمام الحسين صلوات الله عليه. بلى علينا جميعاً، حيث وفّقنا لإحياء القضية الحسينية المقدّسة، أن نسعى إلى العمل لأجل تعظيمها أكثر، يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، كل حسب قدرته وطاقته.
الحسيني كيّس
في رواية شريفة ـ مضمونها ـ أنّ (الكيّس من كان يومه أفضل من أمسه، والمغبون من كان يومه شرّ من أمسه، وهو ملعون) ويعرف أهل الوعظ والمنابر والسادة العلماء ذلك، فالكيّس يعني الشاطر. وهذه الرواية هي خاصّة بالنسبة لأعمال المرء الشخصية، فكيف بالنسبة للقضية الحسينية المقدّسة؟ فمثلاً: الذي وفّق وذهب إلى زيارة كربلاء في السنة الماضية بمناسبة عاشوراء أو الأربعين الحسيني أو في غيرها من الأيّام، وهذه السنة لا يمكنه الذهاب لعذر ما أو لا يستطيع، فليسع أن يرسل غيره بمكانه للزيارة، أو يقترض إن لم يك له المال الذي يستطيع الذهاب به إلى الزيارة. فنحن نقترض ونستدين لأجل احتياجاتنا اليومية، ألا نقترض ونستدين لأجل الإمام الحسين صلوات الله عليه؟ ولماذا؟ علماً إنّ القرض هو الأفضل.
لقد كان من سيرة المعصومين صلوات الله عليهم الاقتراض والاستدانة لأجل قضاء حاجات الناس. واستشهد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وكانت عليه الديون، وذكرت الروايات الشريفة انّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه بنفسه قام بأداء ديون وقروض النبي صلى الله عليه وآله. فلم يبني سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالأموال التي اقترضها، القصور والبيوت الفارهة، بل كان يعطيها للمحتاج، وكان يعطي كل ما كان عنده وبين يديه، بل وكان يقترض مرّات ومرّات أخرى. فقد ذكر في موسوعة بحار الأنوار وفي غيرها من الكتب، أنّه صلى الله عليه وآله رحل عن الدنيا وبذمّته سبعمئة ألف من الديون. وهل تعلم كم كانت القيمة الشرائية لـ(700 ألف) حينها؟ لا شكّ لو أردنا أن نعرف قيمتها الشرائية اليوم فربما ستكون بالمليارات.
كما على أهل التأليف الذين يكتبون عن الإمام الحسين صلوات الله عليه، أن يكتبوا بالسنة الجارية أكثر تفصيلاً وأفضل من السنين الماضية. وعلى الأثرياء أن ينفقوا الأموال، وعلى غيرهم ممن يمكنه القرض أن يقترض، وإن لم يمكنه الاقتراض أو يفقد من يقرضه، فليشجّع الآخرين، على الذهاب إلى كربلاء وعلى إقامة العزاء، كما يذهب هو للزيارة، وكما يقيم هو العزاء الحسيني.
املؤوا العالم بالقضية الحسينية
لقد عاصرت المرحوم الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء قدّس سرّه، الذي كان من كبار مراجع الشيعة، ورأيته في مدينتي كربلاء المقدّسة والنجف الأشرف. وله مؤلّفات عديدة، وطبعت مؤخّراً في عدّة مدن، ومنها في قم المقدّسة وطهران. وقد ذكر الشيخ كاشف الغطاء في أحد كتبه، بأنّ أحد علماء المسيح في مدينة بغداد كان قد قال له، أي للشيخ كاشف الغطاء: لو كان الإمام الحسين صلوات الله عليه لنا نحن المسيح، لجعلنا الدنيا كلها مسيحية، ولكنكم لا تعرفون كيف تستفيدون من الإمام الحسين صلوات الله عليه.
أقول: مع ذلك ومع الكثير من المشاكل الموجودة، تزداد القضية الحسينية المقدّسة علوّاً، سواء شئنا أم أبينا، كما في الماضي، والحاضر واليوم.
كذلك كان المرحوم الشيخ جعفر الرشتي رحمه الله من أساتذة العلوم العربية في مدينة كربلاء المقدّسة، وقد زرته أنا شخصياً، وقد عاش قرابة مئة سنة.
وسمعت من الشيخ الرشتي قبل قرابة ستين سنة، والقصّة يعود تاريخها إلى قبل مئة سنة، أنّه قال (في زمن حكم العثمانيين شاهدت في ليلة الأربعين الحسيني بمدينة كربلاء المقدّسة، أنّ الزائرين الحسينيين قد ملؤوا المدينة من قنطرة البيضة إلى خان الهندي، وكانوا نائمين كلّهم). وتقع قنطرة البيضة بطرف مدينة بغداد، وخان الهندي بطرف مدينة النجف الأشرف. وأضاف الشيخ الرشتي وقال: (ولقد خمّن الغربيون عدد زوّار الأربعين حينها بمليون زائر، أي مليون زائر قبل قرن! فكيف بأعداد الزائرين اليوم؟ وهذا يعني (ولا يزداد إلاّ علوّاً). فلذا علينا أن نسعى كثيراً في مجال (ينصبون لهذا الطف علماً). فعلى الحوزوي أن يسعى بنحو ما، وكذلك الجامعي، والتاجر، والرجل، والمرأة. فليسع الجميع شيئاً فشيئاً، ويعملوا على ملئ الدنيا كلها بالحسينيات. فالحسينية تعني بيت الإمام الحسين صلوات الله عليه. وكذلك ليملؤوا الدنيا كلها بالعزاء الحسيني، وليملؤوها بالذي بيّنه سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله (علماً لهذا الطف)، وهذا الأمر ممكن، ويمكن تحقيقه.
محاولات خائبة
الأمر الآخر، هو قول النبي الكريم صلى الله عليه وآله: (حسين منّي وأنا من حسين). وقد بيّن الأفاضل هكذا معنى الحديث النبوي الشريف أنّه: لولا الإمام الحسين صلوات الله عليه واستشهاده في يوم عاشوراء وما تبع عاشوراء، لم يبقى حتى اسم الأنبياء اليوم، ومنهم حتى اسم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله الذي قال: (وأنا من حسين) صلوات الله عليه. وهكذا هو الأمر لا شكّ. فقد حاول وسعى بنو أميّة، بل صمّموا على القضاء على الإسلام كلّه، وأرادوا ذلك. فقد قال أحدهم من قبل، وهو معاوية بعد أن سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وآله في الأذان: (دفناً دفناً، سحقاً سحقاً)! وكذلك جاء أبو سفيان عند قبر سيّد الشهداء حمزة عليه السلام وركله برجله، وقال: (قم يا أبا عمارة وانظر إلى الذي قاتلتنا عليه، فقد وقع بيد صبياننا). فقد وقع الحكم بيدهم زمن حكم عثمان، وبعد الأخير صار كلّه بأيديهم. ولكن أين بنو أميّة اليوم؟ وأين قبورهم اليوم؟ وأين هو تاريخهم؟ وما لهم وما عملوا؟ فقد دُفن حتى تاريخهم، وليس هم فقط. بينما ترى قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله (فلا يزداد إلاّ علوّاً)، رغم أنّ بعضهم لا يزال يحاول ويسعى، حتى اليوم، إلى دفن قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه، كما قال صلى الله عليه وآله (وليجتهدنّ). وذكرت الروايات الشريفة ـ أيضاً ـ أنّ عدّة من الناس، في زمن الأئمة صلوات الله عليهم، سينكرون ويدّعون بأنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه غير مدفون في كربلاء، واليوم نرى وجود أمثالهم. وكل هذه المحاولات لها نتائج عكسية.
مسؤولية مهمّة
يجدر بالجامعيين والحوزويين والسادة العلماء الأعلام والوعّاظ الأجلاّء، وأصحاب التأليف، والخطباء، وغيرهم وغيرهم، أن يسعوا إلى إيصال معنى ومضمون (حسين منّي وأنا من حسين)، بل ويعرّفون سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، وليس الحديث الآنف الذكر فقط. فالسيرة النبوية الشريفة هي التي كانت من أهداف الإمام الحسين صلوات الله عليه في نهضته المقدّسة كما قال الإمام بنفسه: (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وآلهما). فيجب تعريف سيرة النبي الكريم والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما للبشرية كلّها، فإنّ الناس سيتبعونهما إن عرفوهما.
من معالم السيرة النبوية والعلوية
فمن السيرة النبوية الشريفة، وكذلك السيرة العلوية الشريفة أنّه: لقد حكم نبي الإسلام صلى الله عليه وآله قرابة عشر سنوات، وكذلك الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه حكم نصف المعمورة قرابة خمس سنوات، وامتدّت حكومته في الشرق الأوسط إلى أوروبا وأفريقيا، سوى الشام. وخلال تلك السنوات من حكومتي رسول الله والإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما، ومع كثرة الأعداء والمعاداة لهما ولحكومتيهما، لم تجد فيهما حتى إعدام سياسي واحد، ولا سجين سياسي واحد. فقد فرضت على الإمام علي صلوات الله عليه ثلاث حروب كبيرة، ولكن الإمام كان يكفّ عن القتال فوراً وبمجرّد أن يضع الطرف المقابل، أي المحارب، أسلحته وسيوفه. بل ولم يسجن الإمام صلوات الله عليه حتى واحد من رؤوساء وقادة تلك الحروب، وهذا التعامل لا نظير له في العالم، بل هو فريد في تاريخ العالم. وهذا التعامل كان من أهداف الإمام الحسين صلوات الله عليه، فيجب أن نوصله للعالم كلّه في شهري محرّم وصفر، عبر الكتابات والقنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام والتبليغ.
كما ذكر التاريخ، أنّه لم يمت حتى شخص واحد من الجوع في زمن وفي رقعة دولة النبي الكريم صلى الله عليه وآله، وإذا وجد أحدكم ذلك فليخبرنا. كذلك لم يذكر التاريخ أبداً، أنّه حتى شخص واحد مات بسبب الجوع في الرقعة الواسعة لحكومة الإمام علي صلوات الله عليه. ولكن ذكر التاريخ أنّه مات بسبب الجوع من الناس في حكومات الذين حكموا الأمّة الإسلامية، ومنهأ في حكومة عثمان، حيث مات الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضوان الله عليه بسبب الجوع، وهو الذي قال بحقّه سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ من ذي لهجةٍ أصدقَ من أبي ذرٍّ). وكذلك يحدث مثل ذلك اليوم في عصرنا الحالي. ولكن خلت حكومة النبي الكريم وحكومة الإمام علي صلوات الله عليهما وآلهما من موت حتى واحد، ممن عاش في كنف حكومتيهما، بسبب الجوع، وهذا ما كان يهدف إليه الإمام الحسين صلوات الله عليه من نهضته المقدّسة، فيجب أن يعرفه العالم، وهي مسؤولية على الجميع.
من الأحكام الإسلامية
مما يؤسف له، أنّه حتى الأحكام الإسلامية المسلّم بها، لم يعرفها العالم، بل ولم تعمل بها أغلب الحكومات الإسلامية. ومن هذه الأحكام الإسلامية المسلّم بها والمجمع عليها، هو أنّه لا يحقّ لأية حكومة أن تبيع الأراضي، فهي ليست مالكة للأرض. بل إنّ سيّدنا نبي الإسلام صلى الله عليه وآله قال: (الأرض لله ولمن عمّرها). وقد ذكرت الرواية الشريفة في العديد من الكتب، ومنها في كتب الشيخ الطوسي. وكذلك ذكرتها كتب العامّة. وتعني الرواية أنّ كل من يقوم بإحياء الأرض بزرعها أو ببناء بيت ودار سكن عليها، أو معمل أو مصنع، يصبح مالكاً لها. فاللام في (ولمن) هي لام الملك وما شابهه. فالأرض ملك ذاتي لله جلّ وعلا، وملك بالعرض لكل من يقوم بإحيائها وإعمارها. فما للحكومات والتدخّل في الأراضي، وهو لا يحقّ لها؟ فنبي الإسلام صلى الله عليه وآله لم يبع أي قطعة من الأرض حتى لشخص واحد، وكذلك فعل الإمام علي صلوات الله عليه. ولكن كان عثمان بن عفان يهب الأراضي لمن شاء ممن كان حوله ولمن كان يعجبه، فمثلاً كان يقول لمن يعطيه أرضاً: كذا مساحة منها لي والباقي لكّ. وحينما وصلت الخلافة الظاهرية لمولانا الإمام علي صلوات الله عليه، قال في أول خطبة له بالنسبة لمن وهب الأراضي ووزّعها وأعطاها حسب ما اشتهى وأراد، ومنهم عثمان الذي وهب الأراضي لمروان وغيره: (وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَمُلِكَ [تَمَلَّكَ] بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ). ويقصد الإمام علي صلوات الله عليه من كلامه أنّه لا يحق لعثمان أن يهب ويوزّع الأراضي حسب ما يريد، فهو ليس مالكاً لها.
من يملك الأرض؟
إنّ الأرض على قسمين: الأول وحسب الأدلّة هي سهم للإمام، ومنها بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام و... . وأما باقي الأراضي ومنها الصحاري وملايين الكيلو مترات من أراضي الدنيا، فهي لا تخصّ أحداً ولا من مال أحد، وليست حتى من سهم الإمام صلوات الله عليه. بل لا تحتاج حتى إلى إذن وترخيص من الإمام. وهذه الموارد ومنها (الأرض لله ولمن عمّرها) مذكورة بالتفصيل في كتب شرائع الإسلام، وكتب الشيخ الطوسي وفي الرسائل العلمية، والسادة طلبة العلم على معرفة بها. فكم نسبة من المسلمين يعرفون هذا الحكم الإسلامي المسلّم به؟ وكذلك باقي الأحكام المسلّم بها؟
منشأ الإسلام المزيّف
لقد بيّن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: (سيأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه). أي الإسلام بالاسم فقط، وليس الإسلام الحقيقي والواقعي، أي الإسلام المزيّف والمزوّر، كالعملة المزوّرة. وقد اختلق الإسلام المزيّف المزوّر الحكّام من بني أميّة وبني مروان ومروراً ببني العباس ومن تبعهم من الحكّام. وهذا الأمر يجب أن يعرفه العالم، وبالخصوص في شهري محرّم الحرام وصفر الأحزان، لأنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله هو (وأنا من حسين). فيجب أن يعرف العالم الأحكام الإسلامية المسلّم بها التي جاء بها نبي الإسلام صلى الله عليه وآله، وهي بكثرة وكثرة. فاليوم لا يعرف تلك الأحكام حتى الكثير من المسلمين، ومنها مسألة الأرض والرواية المرتبطة بها التي مرّ ذكرها آنفاً، وهي من جمالية الإسلام، التي يجهلها حتى الكثير والكثير من المسلمين وليس العالم فقط. فيجب أن يتحقّق (وأنا من حسين) في الخارج والواقع. هذا أولاً.
مسؤولية لمستقبل التاريخ
ثانياً: فيما يخصّ قوله صلى الله عليه وآله: (ينصبون لهذا الطف علماً) و(ليجتهدنّ أئمة الكفر). فعلى الحوزويين والجامعيين والمثقّفين، في كل مكان بالعالم، سواء بالدول الإسلامية وغير الإسلامية، أن يتعاونوا فيما بينهم، ويكتبوا ويؤلّفوا الكتب والموسوعات حول ما جرى ووقع وحصل، من ساعة استشهاد مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه وإلى اليوم، ومن قام بالإيجاب تجاه القضية الحسينية المقدّسة، ومن قام بالسلب؟ وكذلك حول المجالس والمراسيم الحسينية والعزاء الحسيني والمواكب والهيئات الحسينية، وحول الإطعام والطعام. وكذلك حول محاولات عرقلة القضية والشعائر الحسينيتين المقدّستين، وما نشروا حولهما من أكاذيب وافتراءات، وحول ما تعرّض له أصحاب العزاء والمعزّين الحسينيين من أذى وتعذيب وضرب وسجن، وإعدام، في الأزمنة السابقة والحالية. فينبغي جمع كل تلك القضايا في موسوعات كبيرة لعلّه تصل إلى قرابة المئات من المجلّدات. فكل تلك المعلومات قد خلى التاريخ منها، بل حتى اليوم لم يُعرف كم هي أعداد المجالس الحسينية، وكم هي أعداد المواكب والهيئات الحسينية، وكم هو العزاء الحسيني. فأقترح القيام بهذا العمل لمستقبل التاريخ.
الاستثناء الإلهي للقضية الحسينية
كما بيّنا مسبقاً أنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه قد قال: (جدّي خير منّي، وأبي خير منّي، وأمّي خير منّي، وأخي الحسن خير منّي)، وجعله الله تعالى الخامس من أصحاب الفضيلة، لكنّ الله تعالى جعل الإمام الحسين صلوات الله عليه الاستثناء في عالم التكوين والتشريع. فعلى سبيل المثال:
لقد أجمع المسلمون، بما فيهم الشيعة، على حرمة أكل التراب، للمريض وغير المريض، ولكن يجوز للمريض أن يتناول مقداراً من التربة الحسينية، بل يستحبّ له، علّه يشفى. بينما لا نرى هذا الجواز بالنسبة لتربة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي هو أفضل من الإمام الحسين صلوات الله عليه، ولا يوجد لتربة قبر الإمام علي صلوات الله عليه وهو أفضل من الإمام الحسين صلوات الله عليه. وأما قبر السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليه فلا يُعلم أين. وكذلك بالنسبة لتربة قبر الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، يحرم تناولها وأكلها للشفاء، وهذا ما مذكور في الكتب الفقهية، وحتى لو استفتيتم الفقهاء فسيقولون لكم بأنّه لا يجوز. بلى لا ضير أن تمرّغ تربة قبر الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه بوجهك أو ببدنك، فهذا حسن ولا إشكال فيه، ولكن يحرم أكله مطلقاً إلاّ تربة قبر الحسين صلوات الله عليه. فيتبيّن مما تم ذكره، انّ هذا التشريع قد غيّره الله تعالى وجعله خاصّاً بالإمام الحسين صلوات الله عليه فقط. أي الحرام يصبح مستحبّاً، ولا شكّ ليس المقصود هو كل الحرام، بل الذي له الدليل، ومنه التربة الحسينية. فالله تعالى قد غيّر التشريع بالنسبة للإمام الحسين صلوات الله عليه، ولم يجعله لغير الإمام الحسين صلوات الله عليه، حتى للمعصومين الأربعة صلوات الله عليهم الذين هم أفضل من الإمام الحسين صلوات الله عليه. فالله تعالى غيّر الكثير من التكوين للإمام الحسين صلوات الله عليه، وراجعوا الخصائص الحسينية لتعرفوا ذلك، في الزيارات والروايات والأدعية، ومنها الرواية الشريفة عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله التي صدّرنا بها الكلام هذه الليلة. وأقول: مع ذلك إنّها قليلة.
مسؤولية الأربعين الحسيني
القضية الأخرى هي قضية الأربعين الحسيني، وهي مسؤولية على الجميع. فالأربعين الحسيني هو من ضمن (عَلَماً) الذي ذكره النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في روايته الشريفة. فيجب على الجميع أن يهتمّوا بها، كل حسب قدرته وطاقته. فلماذا لا يذهب إلى كربلاء في مناسبة الأربعين الحسيني، ثلاثون مليون زائر ولا يُكتفى بعشرين مليون زائر؟ بل لماذا لا يذهب أربعون وخمسون مليون زائر؟ هل لا تستوعبهم كربلاء المقدّسة؟ ألا يمكن أن يذهبوا إليها ويزورا فقط ويرجعوا، وخصوصاً في مناسبة الأربعين الحسيني؟ فلا إشكال أن يزوروا قبل الأربعين أو بعده، لأنّه يوجد توسعة في المستحبّات، بالزمان والمكان أيضاً.
يوجد في العالم اليوم مدن كبيرة، وستصبح كربلاء بالمستقبل من المدن الكبيرة. فعلى الجميع أن يسعوا إلى أن يكون نصيبهم من الأربعين الحسيني في هذه السنة أكثر من الماضية، وأن لا يكون كالسنة الماضية، أي ليكن كل واحد من مصاديق الحديث الشريف الذي مرّ ذكره وهو (الكيّس من يكن يومه أفضل من أمسه) وأن لا يكون مغبوناً وهو الذي يتساوى يوماه، بل وأن لا يكون أمسه أفضل من يومه والعياذ بالله، لأنّه سيكون ملعوناً بعيداً عن رحمة الله تعالى.
بالخصوص المذكور، ليصمّم عدّة من المؤمنين بالنسبة للأربعين الحسيني في السنة الجارية، وكذلك للأربعين في السنين القادمة، وحتى الفرد الواحد يمكنه ذلك أيضاً، ليصمّموا على استئجار طائرة لنقل الزائرين إلى كربلاء المقدّسة بالمجان، أو يستأجروا السيّارات والباصات، وهذا ما صار وحدث، لكنه لا يكفي. فهكذا أعمال ترفع من درجة عامله، وتزيد من توفيقه، وستكون دنياه أفضل، وكذلك آخرته. وهذا ما وعدت به الروايات الشريفة المتواترة عن المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم، من حيث المجموع.
أسأل الله عزّ وجلّ، لي ولكم ولجميع المسلمين، ولجميع من هم في الدول غير الإسلامية، التوفيق لنشر وتعميم القضية الحسينية المقدّسة وأهدافها وأفكارها، ففي هذا العمل السعادة بالدنيا والآخرة. فمن أهداف الإمام الحسين صلوات الله عليه في نهضته المقدّسة، وكما ذكرنا مسبقاً، هو العمل بسيرة رسول الله والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما وآلهما، اللتين عملا صلوات الله عليهما بهما وطبّقاها. فهذا العمل هو السعادة، الفريدة في تاريخ البشرية إلى اليوم.
إذن، فليسع الجميع، بالأخص الذين هم في الدول غير الإسلامية، من لهم حسينية، أو يعملوا بالتجارة أو الكسب أو بوظيفة، وغيرها، ليسعوا إلى أن يكون الأربعين الحسيني في السنة الجارية أكثر، وأفضل من السنوات السابقة، وهكذا في السنين القادمة، حتى لا يكونوا من المعلونين ولا من المغبونين، والعياذ بالله.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
تقرير وتعريب: علاء الكاظمي