بقلم: الشيخ محمد جواد مغنية
لماذا يهتم الشيعة الإمامية هذا الاهتمام البالغ بذكرى الإمام الحسين عليه السلام، و يعلنون عليه الحداد، و يقيمون له التعازي عشرة أيام متوالية من كل عام؟ !
هل الحسين أعظم وأكرم على الناس من جده محمد وأبيه علي؟!
وإذا كان الإمام الحسين إماماً فإن جده خاتم الرسل والأنبياء، وأباه سيد الأئمة والأوصياء؟!
لماذا لا يحيي الشيعة ذكرى النبي والوصي، كما يفعلون و يذكرون الشهيد؟!
الجواب: إن الشيعة لا يفضلون أحداً على الرسول الأعظم. إنه أشرف الخلق دون استثناء، ويفضلون علياً على الناس باستثناء الرسول، فقد ثبت عندهم أن علياً قال مفاخراً: «أنا خاصف النعل» أي مصلح حذاء الرسول.
وقال: «كنا إذا حمى الوطيس لذنا برسول الله » ، أجل أن الشيعة الإمامية يعتقدون أن محمداً لا يوازيه عند الله ملك مقرب و لا نبي مرسل، وأن علياً خليفته من بعده و خير أهله و صحبه ، وإقامة عزاء الحسين في كل عام مظهر لهذه العقيدة وعمل مجسم لها . وتتضح هذه الحقيقة بعد معرفة الأسرار التالية:
1 ـ تزوج الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ابن 25 سنة، وقبض و له 63 سنة، و بقي بعد خديجة دون نساء وحده ، ثم تزوج الكثيرات حتى جمع في آن واحد بين تسع ، و امتدت حياته الزوجية 37 عاماً و رزق من خديجة ذكرين : القاسم و عبد الله ، و هما الطيب و الطاهر ، ماتا صغيرين ، كما رزق منها أربع بنات : زينب و أم كلثوم و رقية و فاطمة ، أسلمن و تزوجن و توفين في حياته ما عدا فاطمة ، و ولدت له مارية القبطية إبراهيم ، و قد اختاره الله ، و له من العمر سنة و عشرة أشهر و ثمانية أيام ، فانحصر نسل الرسول بفاطمة و ولديها من علي ، الحسن و الحسين ، فهم أهله الذين ضمهم و إياه « كساء » واحد و بيت واحد .
و قد كان هؤلاء الأربعة عليهم السلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم سلوة و عزاء للمسلمين عن فقد نبيهم ، و أن عظم الخطب ، لأن البيت الذي كان يأويه ما زال مأهولا بمن يجب عامراً بأهله و أبنائه ، و ماتت فاطمة بعد أبيها بـ 72 يوماً ، فبقي بيت النبي مزيناً و مضيئاً بعلي و الحسن و الحسين ، ثم قتل علي ، فظل الحسنان ، و كان حب المسلمين لهما لا يعادله شيء إلا الحب و الإخلاص لنبيهم الكريم ، لأنهما البقية الباقية من نسله و أهل بيته ، و بعد أن ذهب الحسن إلى ربه لم يبق من أهل البيت إلا الحسين ، فتمثلوا جميعاً في شخصه ، فكان حب المسلمين له حباً لأهل البيت أجمعين ، للنبي و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ، تماماً كما لو كان لك خمسة أولاد أعزاء ، و فقدت منهم أربعة و بقي واحد ، فإنه يأخذ سهم الجميع ، و توازي منزلته من قلبك منزلة الخمسة مجتمعين . و بهذا نجد تفسير قول سيدة الطف زينب، و هي تندب أخاها الحسين يوم العاشر من المحرم : (اليوم مات جدي رسول الله ، اليوم ماتت أمي فاطمة ، اليوم قتل أبي علي ، اليوم سم أخي الحسن).
و نجد تفسير ما قاله الإمام الشهيد لجيش يزيد حين صمموا على قتله: (فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم و لا في غيركم). و إذا أقفل بيت الرسول بقتل ولده الحسين، و لم يبق من أهله أحد ، كان ، و الحال هذه استشهاده استشهاداً لأهل البيت جميعاً ، و احياء ذكراه احياء لذكرى الجميع .
2 ـ إن وقعة الطف كانت و ما زالت أبرز و أظهر مأساة عرفها التاريخ على الإطلاق ، فلم تكن حرباً و قتالا بالمعنى المعروف للحرب و القتال ، و إنما كانت مجزرة دامية لآل الرسول كباراً و صغاراً ، فلقد أحاطت بهم كثرة غاشمة باغية من كل جانب ، و منعوا عنهم الطعام و الشراب أياماً ، و حين أشرف آل الرسول على الهلاك من الجوع و العطش انهالوا عليهم رمياً بالسهام و رشقاً بالحجارة و ضرباً بالسيوف و طعناً بالرماح ، و لما سقط الجميع صرعى قطعوا الرؤوس ، و وطأوا الجثث بحوافر الخيل مقبلين و مدبرين ، و بقروا بطون الأطفال ، و أضرموا النار في الأخبية على النساء . فجدير بمن والى و شايع نبيه الأعظم و أهل بيته أن يحزن لحزنهم ، و أن ينسى كل فجيعة و رزية إلا ما حل بهم من الرزايا و الفجائع معدداً مناقبهم و مساوئ أعدائهم ما دام حياً .
حين نكت يزيد ثغر الحسين بالقضيب، قال له رسول قيصر المسيحي: « إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى عليه السلام نحج إليه في كل عام من الأقطار ، و نهدي إليه النذور ، و نعظمه كما تعظمون كتبكم ، فاشهد إنكم على باطل » . لقد شاء الله و قدر أن تكون حادثة كربلاء أعظم و أخلد من كل حادثة عرفها التاريخ كما أنها أفجع وأوجع مأساة مرت و تمر على وجه الأرض .
إن الحسين عند شيعته و العارفين بمقاصده و أهدافه ليس اسماً لشخص فحسب ، و إنما هو رمز عميق الدلالة ، رمز للبطولة و الانسانية و الأمل ، و عنوان للدين و الشريعة ، و للفداء و التضحية في سبيل الحق و العدالة ، كما أن يزيد رمز للفساد و الاستبداد و التهتك و الرذيلة ، فحيثما كان و يكون الفساد و الفوضي و انتهاك الحرمات و إراقة الدماء البرئية و الخلاعة و الفجور و سلب الحقوق و الطغيان ، فثم اسم يزيد و أعمال يزيد ، و حيثما كان و يكون الثبات و الإخلاص و البسالة و الفضيلة و الشرف فثم اسم الحسين و مبادئ الحسين، فإحياء بطولة الحسين و جهاده و مبدأه إحياء للحق و الخير و الحرية ، و التضحية من أجلها بالنفس و الأهل و الأصحاب ، و احتجاج صارخ على الحاكم الظالم و أعوانه ، و على كل مسرف يعبث بمقدرات الشعوب ، و يغرق في لهوه و ملذاته و ينطلق مع شهواته و مآثمه كيزيد و أعوان يزيد .
أراد ابن معاوية من التنكيل بأهل البيت أن يطفئ نور الله ، و أن تكون الكلمة العليا للشر و الظلم ، و ظن أنه انتصر ، و تم له ما أراد بقتله الحسين ، و لكن انتصاره كان زائفاً ، و إلى أمد ، فسرعان ما زالت دولة الأمويين و ظلت ذكريات كربلاء و مبادئ الحسين حية إلى يوم يبعثون ، و قد جابهت السيدة زينب يزيد بهذه الحقيقة ، حيث قالت من كلام تخاطبه فيه :
« أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى إن بنا على الله هواناً ، و بك عليه كرامة ؟ !... فمهلا مهلا ... فو الله ما فريت إلا جلدك ، و ما حززت إلا لحمك .. و لئن جرت على الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرتك ، و استعظم تقريعك ، و استكثر توبيخك ، و لئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك .. فكد كيدك ، و اسع سعيك ، و ناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، و لا تميت وحينا و لا يرخص عنك عارها ، و هل رأيك إلا فند ، و أيامك إلا عدد ، و جمعك إلا بدد؟).
و صدقت نبوءة السيدة العظيمة ، فقد سقط يزيد و خلفاء يزيد الواحد بعد الآخر ، و انهارت دولة الأمويين بعد مصرع الحسين بنصف قرن ، و ظل المسلمون يلعنون يزيد و يحتفلون بذكرى الإمام الشهيد يوم قتله و يوم مولده من كل عام .
فهذه مصر تحتشد فيها الحشود ، و تنصب السرادقات و ترتفع دقات الدفوف و إيقاع الطبول ، و تمتلئ بالبهجة أصوات المطربين و المنشدين لمولد الإمام و مولد أخته بطلة كربلاء . فليس الشيعة وحدهم يهتمون و يحتفلون بذكرى الحسين . بل المسلمون عرباً و عجماً في كل مكان ، و إذا اختلفت الأساليب و تعددت المظاهر فالجوهر واحد . قرأت في العدد الثاني من مجلة « الغد » المصرية تاريخ فبراير سنة 1959 كلمة بعنوان « مولد السيدة و أعياد الأمة العربية » جاء فيها :
« خلال أعظم معركة في سبيل العقيدة ، شهدها التاريخ القديم لأمة العرب برزت شخصية السيدة زينب « رئيسة الديوان » كما نسميها نحن أبناء مصر بطلة باسلة مؤمنة شجاعة ، حتى أن يزيد بن معاوية لم يجرؤ على مناقشتها عندما ساقوها إليه ، و رفضت أن تبايعه ، و لعنته كما لعنت كل الذين يغدرون و يطعنون
المؤمنين في ظهورهم ! من أجل ذلك نحن في مصر و في كل الوطن العربي نؤمن ببطولة السيدة زينب ، كما نؤمن بذلك البطل الخالد « الحسين بن علي » أبي الشهداء جميعاً .. نؤمن بأمثال هؤلاء العظام ، و نحتفل بمولدهم و نرقص و نغني و نطرب و ننشد الأغاني حول أضرحتهم ، وذلك لأننا نحبهم ، و لا أحد يستطيع أن يزيل من قلوبنا الحب الصادق لقائد البطولة الخارقة .. وقد نحيا و نمتلئ بالأمل فنعمل و نكافح ، لأن مثل هذا الرمز يضئ لنا الطريق و يشحننا بالرغبات الطيبة و الايمان بالشرف ... و نحن لا نبالغ إذا اعتبرنا مولد السيدة زينب و مولد الحسين من الأعياد القومية لأمة العرب.
لقد نظر هذا الكاتب بعين الواقع ، و نطق بلسان الحق ، فإن ظروفنا الماضية و الحاضرة تجعل هذه الأعياد أمراً لا مفر منه . لأنها تذكرنا بالبطولة و النضال من أجل الحرية . مثلنا الأعلى ، و تدفع بنا إلى البحث و التنقيب عن الحاكم المثالي الذي يعمل لوطنه و أمته. لقد مضى على قتل الحسين 1318 عاما و ما زال الشيعة يتذكرون و يذكرون هذا الماضي البعيد و يمجدونه ، ليستخلصوا منه روح الثورة على الظلم .
نحن الشيعة ثوريون بعقيدتنا و تعاليمنا نتفاءل بالثورات التحررية ، ونستبشر بها ، و نحس بعطف عميق نحوها و نحو شهدائها ، فإذا كرمنا الحسين فإنما نكرمه بصفته الباعث الأكبر للثورات ، و المعلم الأول للثائرين من اجل الحق و المساواة ؟ نحن لا نعبد الأفراد ، بل نقدس المبادئ ، لأننا مسلمون قبل كل شيء .
و الحسين يمثل مبادئ جده الرسول خير تمثيل، و من أجلها قتل هو و أهله و أصحابه و سد بيت نساؤه و أطفاله و من أجلها يفرح المسلمون السنة يوم مولد الحسين ، فيصفقون و يرقصون و يغنون ، لأنه اليوم الذي ابتهج فيه نبي الرحمة و العدالة ، و يحزن المسلمون الشيعة يوم قتله ، فيبكون و يندبون و يلبسون ثوب الحداد ، لأنه يوم حزن و كآبة عليه و على جميع المسلمين ، وينشد الشيعة يوم العاشر من المحرم مع الشريف الرضي :
لو رسول الله يحيا بعده *** قعد اليوم عليه للعزا
يفرح أولئك بالمولد ، و يحزن هؤلاء للمقتل ، و هدف الجميع واحد ، هو الطاعة و الولاء والتقرب إلى الله و خاتم الانبياء ، و كلا وعد الله الحسنى .