عاشت كربلاء البطولة والفداء، مراسيم إحياء شهادة أبي الأحرار، الإمام الحسين (عليه السلام)، وفُوِّجَ مئات الآلاف من الزوار الكرام تباعا، نحو مرقده الشريف، وأسهم الملايين في أداء الزيارة المخصوصة لغريب كربلاء، وهبَّ الزوار من كل حدب وصوب، من داخل العراق وخارجه، حتى غصَّت بهم شوارع كربلاء المقدسة وساحاتها، فضلا عن الفنادق والبيوت والحسينيات والمواكب المنتشرة في المدينة وخارجها لخدمة ملايين الزوار الكرام.
إنه مشهد عظيم ذلك الذي يتكرر في يوم العاشر من شهر محرم في كل عام، حيث تُحيى مراسيم الاستشهاد والوداع، وتُسكَب العبرات والدموع الحرّى، وتُستعاد مواقف البطولة التي هدّت عروش الظالمين، وأسقطتهم من علياء كراسيهم نحو الحضيض، في استذكار دائم يهدد طغاة العصر، ويجعلهم في حالة رعب وعدم استقرار، وخوف مستمر من الثائرين على الظلم والفساد والطغيان بكل أنواعه.
لهذا يسعى هؤلاء الفاسدون ومن يؤيّدهم على الظلم، بأقصى ما في وسعهم لعرقلة كل ما يمتُّ بِصِلَةٍ إلى القضية الحسينية، وهؤلاء هم الذين ظلموا الإمام الحسين (عليه السلام) بالأمس، ولا يزالون إلى الآن يواصلون ظلمهم له، عبر التشكيك بالفكر الحسيني، وبالشعائر الحسينية المقدسة، بل بالقضية الحسينية برمّتها، وهؤلاء تحت المراقبة الإلهية التي لن تسمح بظلم أئمة أهل البيت، وخصوصا الإمام الحسين (عليه السلام).
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في محاضرة قيمة بمناسبة عاشوراء واليوم العاشر من محرّم: إنّ الله تعالى أقسم أن لا يهمل وأن لا يغضّ الطرف عمّن يظلم أهل البيت صلوات الله عليهم، بالأخصّ من يظلم مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه. كما إنّ أهل البيت صلوات الله عليهم لعنوا كل من يظلمهم، كما في الروايات الشريفة الصحيحة المعتبرة).
وهكذا أصبح هناك متضادّان بالنسبة للقضية الحسينية المقدسة، الأول يتمثل بالفريق الذي يخدم هذه القضية، ويقدّم لها عصارة جهوده وأفكاره وتأييده وأمواله، ولا يتردد في ذلك قيد أنملة، وهذا هو الفريق الفائز بالجنة بإذن الله تعالى، أما الفريق الثاني فهو يتكون من أولئك الذين وقفوا ويقفون اليوم ضد هذه القضية المسنودة إلهيّا، فيعرقلون ويحاربون الطقوس أو يقفوا في حالة اللامبالاة واللاموقف، فهؤلاء لهم النار واللعنة.
تحديد الموقف
على مرّ القرون منذ أن استشهد الإمام الحسين (عليه السلام)، تعاقب طغاة ظالمون منعوا الطقوس، وأمروا جيوشهم بقتل زائري مرقد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وتمت عرقلتهم، وملاحقتهم، وإلقاء القبض عليهم، وتعذيبهم، أو زجّهم في السجون، وهناك من قام بقطع أرجل الزوار وأيديهم لأنهم توجّهوا إلى سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لذلك فإن كل من يقوم بنفسه أو يشترك أو يساهم في ظلم الإمام الحسين (عليه السلام) وعرقلة أو منع زواره، فإن الله تعالى له بالمرصاد، لاسيما أن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) لها خصوصية عظيمة عند الله تعالى وأجر لا يضاهيه أجر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: إن من خصائص القضية الحسينية المقدّسة أن من يخدمها له الجنة، ومن يقف أمامها أو يحاول عرقلتها أو محاربتها فله النار لا محالة. بل حتى الذي يتّخذ موقف اللامبالاة تجاهها فهو ملعون). وقد خاطب سماحته المؤمنين لاسيما الشباب منهم، بصوت عال وواضح وبليغ، وطلب منهم أن يعتبروا، لأن الله تعالى أراد أن تكون القضية الحسينية المقدسة، لها خصوصيتها، ولها استثناء خاص بها، ولهذا هناك تحذير شديد وحاسم من المساس بها بأي شكل من الأشكال، فمثل هذا العمل لا يختلف عن اللعب بالنار، ومن يلعب بالنار سوف لن تبقيه في مأمن من أذاها وآلامها، وليس هناك فرق بين شخص وآخر في قضية معاقبة من يمس هذه القضية بأي نوع من السوء أو الضرر.
جاء في خطاب المرجع الشيرازي:
أيها السادة، وبالأخصّ أيها الشباب، اعتبروا، فـ(لقد كان في قصصهم عبرة). فإن الله تعالى أراد أن تبقى قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه، استثنائية وفريدة، ومن يمسّها فإنه سيحترق ويحترق تاريخه، سواء كان من عامّة الناس أو فقيهاً. فمن يلعب بالنار يحترق، سواء كان لعبه عن عمد أو عن غير عمد، وعن علم أو بلا علم).
إن تشبيه القضية الحسينية بالنار يُراد منه تحذير الناس من المساس بها، ومن الإساءة لها، لأن النار من صفاتها التكوينية حرق من يمسّها، وهكذا أراد الله تعالى، أن تكون القضية الحسينية ذات خصوصية لا مثيل لها، واستثنائية لا تتحقق لغيرها، نظرا لعظمة ومكانة الإيثار الذي قدّمهُ سبط الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله للإسلام والمسلمين، كي تعود مسيرة الدين إلى مسارها النبوي المحمدي، بعد ذلك الانحراف والفسق والفجور الذي شهدته مسيرة الإسلام على أيدي يزيد وزبانيته، لذا فإن القضية الحسينية المقدسة كانت وسوف تبقى خاصة واستثنائية بالتكوين والتشريع الإلهي الخاص.
سماحته يقول: النار تكوينياً تحرق من يلعب بها. وهكذا هي القضية الحسينية المقدّسة التي جعل الله تعالى لها تكويناً خاصّاً وتشريعاً خاصّاً أن تكون قضية خاصّة واستثنائية. لذا فإن التعامل السلبي مع هذه القضية يودي بصاحبه إلى التهلكة، كذلك من يعرقل قضية الإمام الحسين (عليه السلام) سوف يُحرق بالنار إذا مسّها أو انتهك حدودها، ليس هذا فحسب، بل حتى الذي لا موقف له تجاه القضية الحسينية ويتعامل معها باللامبالاة، سوف لا يسلم من الحرق الذي سيطول سمعته وتاريخه وسيرته كلّها.
البشرية كلها معنية
هكذا تستمد القضية الحسينية المقدسة خصوصيتها مما جعله التكوين والتشريع الإلهي لها، وهذا الجانب هو الذي منحها هذه المكانة الخاصة العظيمة، وهذه الاستثنائية التي لا تتحلى بها إلا القضايا الخالدة، وهو ما تستحقه قضية الإمام الحسين (عليه السلام) من مكانة تاريخية، وتعظيم بشري لا يتوقف عند فئة معينة أو طائفة محددة أو جماعة معينة، بل البشرية كلها مطالَبة بفهم هذه القضية ودراستها بعمق، لتستمد منها ما يساعدها على العيش في سلام وأمن وسعادة واستقرار.
سماحته يؤكد على وجوب الحذر من التعامل السلبي مع هذه القضية المقدسة في قوله:
علينا جميعاً أن نحذر بأن لا نقع في مثل ما وقع فيه وابتلي به من تعامل بالسلب مع القضية الحسينية أو عرقلها أو كان له موقف اللامبالاة تجاهها، كي لا نحترق ولا يحترق تاريخنا.
سعيد في الدنيا والآخرة من يخط طريقه على خطى عاشوراء، ومبارك من يقف إيجابيا مع غريب كربلاء، وأصيل ذلك الإنسان الذي ينتصر لدم الإمام الحسين (عليه السلام)، من خلال رفع مبادئه وفكره عاليا، والعمل به تحت ضوء الشمس وأمام الجميع، كي يسيروا وراءه ويقتفوا أثره، ويتمسكوا بالقضية الحسينية وخصوصيتها كأنها قضيتهم وقضية البشرية جمعاء.
وختم سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) كلمته القيّمة هذه بقوله:
أسأل الله تبارك وتعالى ببركة مولانا الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه أن يوفّقنا ويوفّق جميع من خطوا ويخطون في طريق الإمام الحسين صلوات الله عليه، ويعملون ويتعاملون بالإيجاب فيها وتجاهها، بأي مقدار كان، وتحت أية شرائط.
إنها قضية المبادئ الخالدة، والمسيرة المعطّرة بالدماء الزكية، إنها الوقفة الأعظم في التاريخ ضد الظلم والظلام، فكيف لا نقف معها بالإيجاب، وكي لا نساندها، وكيف لا ننتصر لها، إنها قضية الشرفاء والأصلاء والأوفياء والماضين قُدُما في طريق الحسين عليه السلام، فسلام على من أنقذ الإسلام بدمه، وسلاما على القضية الأعظم حضورا وتأثيرا وإشعاعا في التاريخ، وفي العالم الآني أجمع.
نقلا عن شبكة النبأ المعلوماتية