بون كبير بين ما يحاول ترويجه الأعداء وبين التنفيذ السياسي في إدارة شؤون الإسلام للأمة، فما يُقال كله يأتي من باب المعاداة غير المبررّة، ويمكن لكل ذي شأن من باحثين وعلماء من كل مشارب الدنيا أن يطلعوا على التاريخ الإسلامي المكتوب بأيادٍ أمينة وليس المحرّف منه، ويكفي لكل ذي بصيرة أن يلقي بنظرة فاحصة على تاريخ أئمة أهل البيت عليهم السلام، لكي يعرف أن النسبة الأكبر منهم ماتوا شهداء بسبب معارضتهم لقمع الحكام.
وينبغي هنا أن نشير الى أن السياسة ليست حكرا على نفرٍ من الناس، هم وحدهم يمتلكون الحق في تعاطيها، فليس صحيحا ما يُشاع عن السياسة والسياسيين من أنهم المعنيون حصرا، بهذا المضمار الذي يهم حياة ومصائر الناس أجمع، أي أن السياسة ليست حكرا على نفر من الناس دون غيرهم، وليس صحيحا أن رجال الدين لا دخل لهم في السياسة، لأن الاسلام أساسا حين ظهر في الجزيرة العربية، إنما كان الهدف منه تغيير منهج حياة الناس جميعا عبر السياسة أولا وغيرها من الاساليب المساعدة على زيادة وعي عامة الناس.
في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
يعرّف سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، السياسة بأنها: (بحث واسع مترامي الأطراف، وبحر عميق عريض لا يبلغ غوره وسواحله إلا القليل).
ويضيف سماحته: السياسة (هي كيفية إدارة شؤون الناس في السلم والحرب، والأخذ والعطاء، والشدة والرخاء، والاجتماع والافتراق، وغير ذلك).
لكن الناس لم يُخلقوا على شاكلة واحدة، وهم لا يفكرون بنسق واحد او وتيرة واحدة، إنهم مختلفون في الرؤى والاهداف والمطامح، لذلك هم يختلفون في الاهواء وفي سبل المعالجة، والسعي لتحقيق الاهداف الفردية او الجمعية، وهذا ما يسبب تضاربا في الاهداف، وتقاطعا في الافكار، ثم تصادما في الإرادات نتيجة لاختلاف المطامح.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(إن الناس كما يختلفون في أشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم.. كذلك: يختلفون في أذواقهم، وعقولهم، وعواطفهم. ويختلفون في إدراكهم، وفهمهم، وتحليلهم).
عدم اللجوء إلى التواريخ المحرَّفة
وهذا يعني من المحال أن تتشابه الآراء أو النظرات أو الرؤية للشيء نفسه، لذا فإن النظر الى السياسة وفق منظور اسلامي، يتطلب منا أن نبحث في التأريخ السياسي المشرق للاسلام، لاسيما أبان حكومة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكي تتولد للمتابع رؤية تاريخية صائبة عن هذا التاريخ، أما اللجوء إلى تواريخ محرفة فهو أمر لا يخدم الحقيقة ويخلو من أية فائدة تُذكر، خصوصا أن جميع الشواهد والإثبات تدل على أن التاريخ الإسلامي المشرق ينطلق من حكومة النبي صلى الله عليه وآله، عندما استطاع أن يجمع شتات المجتمع الجاهلي ويبني منهم أمة ودولة لم تكن لتضاهيها أية دولة أخرى في حينها.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على:
(أن نظرة باحثة ودقيقة في التاريخ الإسلامي المشرق الطويل عبر القرون المتمادية، خصوصاً تاريخ رسول الله وتاريخ وصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأولاده الأئمة الطاهرين عليهم السلام، تعطينا فكرة وافية عن مكان السياسة الصحيحة في الإسلام).
ولا شك أن هذه الرؤية تدحض الآراء التي تقول بعدم تدخّل الدين بالسياسة، فالأمر من حيث النجاح والفشل يعود للقائد والحكومة، لذا ليس صحيحا عزل الدين عن السياسة، او القول بأن السياسة والدين يتقاطعان، أو ضرورة عزل رجل الدين عن السياسة، لأن السياسة هي ادارة شؤون الناس وتحديد مصائرهم، وتحديد كيفية أنماط العيش لهم، وهو أمر يتطلب حقوقا وواجبات، وهذا ما يدفع الحكومات والحكام المتجبرين الى ظلم الشعب، لذا لابد أن يتدخل الدين لتصحيح المسارات، وهناك دلائل كثيرة تشير الى أهمية بل ووجوب تدخل الدين في إدارة شؤون الناس.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (هناك نصوص كثيرة.. وكثيرة جداً في الشريعة الإسلامية، تدل على أن السياسة جزءا لا يتجزأ من الإسلام، بل الأصح في التعبير أن نقول: الإسلام والسياسة لفظان لمفهوم واحد).
أما عند المقارنة بين سياسة الإسلام آنذاك وبين تحريك سياسة اليوم على المستوى العالمي، فإن الفارق كبير جدا، حيث يوجد فرق شاسع بين السياسة المعاصرة وبين سياسة الإسلام في الأوجه كافة، لاسيما سياسة الرحمة واللين والعفو، والتكافل الاجتماعي، حيث يتبلور هذا الفرق في طرق التعامل مع الانسان، والنظر الى حقوقه وكيفية صيانتها وكفالة حرية الرأي وما شابه، من حريات وحقوق اساسية، تعجز السياسة المعاصرة لبعض الحكومات لاسيما المتخلفة منها، عن صون هذه الحقوق وحمايتها، وهو أمر واقع نعيشه اليوم في ظل الحكومات الفاسدة والحكام الذين لا يتورعون عن العبث بحرمات البشرية.
سياسات التكميم والحرمان الفاشلة
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع:
(إنّ السياسة الإسلامية تباين السياسة العالمية اليوم وتختلف عنها في أصولها وفروعها، فالسياسة الإسلامية هي غير السياسة المعاصرة التي تمارسها الدول تماماً).
ويضيف سماحته: (أما سياسة الإسلام فهي مزيج من الإدارة والعدل، والحب الشامل، وحفظ كرامة الإنسان، وحقن الدماء. فهو يسعى في أن لا تراق قطرة دم بغير حق، أو تهان كرامة شخص واحد جوراً، أو يظلم إنسان واحد، بل وحتى حيوان واحد).
ويمكن أن نفرق بجلاء بين سياسة الاسلام، والسياسة المعاصرة القائمة على القمع، حيث يرتكز العمل السياسي الراهن، لدى الحكومات القمعية المعاصرة على تكميم الشعوب وكبت الحريات والسيطرة الكلية على الشعوب بشتى الوسائل والسبل، بما في ذلك جميع أساليب القمع والإقصاء والتعذيب والنفي والمطاردة، فتاريخ الطغاة مكللّ بالخزي والعار على امتداد التاريخ السياسي، لذلك ثمة بون كبير بين سياسة الإسلام والسياسة العالمية القائمة على المصلحة والفلسفة البراغماتية.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي عن هذا الموضوع:
(أما السياسة بمفهومها المعاصر فهي القدرة على إدارة دفّة الحكم وتسيير الناس والأخذ بالزمام مهما كلّفت هذه الأمور من: إهدار كرامات وإراقة دماء وكبت حريات وابتزاز أموال وظلم وإجحاف).
والسبب كما يرى سماحته: أن (السياسة الإسلامية بُنيت على أسس العدل الكامل.. والكرامة الإنسانية.. والعفو بجنب الصمود والقوّة) كما جاء في المؤلَّف المذكور لسماحته، حيث ترد أدلة وإثباتات تأريخية قاطعة، على كيفية تعامل السياسة العالمية مع الشعوب، بما لا يقترب قط مع تعامل الإسلام السياسي مع الإنسان، وفق المبادئ والتعاليم التي استطاع رسول الأمة أن يوحد الجميع تحت راية الإسلام الخفاقة.
ولكي لا يدور كلامنا في فضاء الأقوال غير المسنودة، نقتطف بعض الأمثلة التي أوردها سماحة المرجع الشيرازي عن الجرائم البشعة التي ارتكبتها السياسة المعاصرة بحق الإنسانية.
حيث يؤكد سماحته على أن البريطانيين:
(قتلوا في الهند في قصة حرب الأفيون حوالي عشرين مليون إنسان-1-. وقتل البريطانيون في الهند أيضاً أيام المطالبة بالحرية والخروج عن نير الاستعمار ثمانمائة ألف إنسان في صورة مجاعة اصطناعية-2-).
منقول عن شبكة النبأ للمعلوماتية